على مسرح الواقع مجدداً بقلم هند محمد

ليست هناك تعليقات




على مسرح الواقع مجدداً 
هي ، هو ... هما!


_ هو _

فاض قلب السماء فجأة كما عينيها، بدأت موال نوح طويل يصحبه شهقات رعد من فمها المتشردق غصات. بلحظات كان جسده الخائر غارقاً بفيض السماء، استفاق من غيبوبة لم يعلم كم استمرت. أدرك أنّ البرد قد اخترق عظامه و أنّ مرضاً طويلاً سيحل ضيفاً ثقيل الظل على جسده. لم يبذل أي جهد لينهض بل قلب نفسه وأصبح مستلقياً على ظهره ، وجهاً لوجه مع ثورة السماء التي أصابته بعدوى جنونها، بدأت أعضاؤه بالاحتجاج و ارتجت بعنف، لم يرضخ لها، فتح عينيه و ملأهما بدمع الغيم و أكملا البكاء سوياً، رفع يديه بصعوبة  و أجلسهما جنباً إلى جنب فوق رأسه و عند امتلائهما رشق بما فيهما  قلبه مرة و ثانية و ثالثة و ألف. أكمل طقس الذبح الذي يمارسه مع دفئه و تقلب حتى أصبح ماءً!
نهض أخيراً، لملم أعضاءه الغارقة عصرها و جر نفسه للداخل. لم يهرع للدفء بل أكمل تحوله، ذهب إلى الحمام وسلّم نفسه للماء البارد ، لم يكن يفكر سوى بالتحول الأعظم المقدم عليه ، تحوله إلى قالب جليد خالٍ من كل شيء عدا برودته القاتلة. لكن، قبل النهاية بقليل لمع برقٌ في رأسه! أغلق فوهة الجحيم المفتوحة فوقه و خرج مسرعاً، ارتدى الكم الأكبر من الملابس المتكومة في خزانته ، صنع لنفسه قهوة و جلس أمام نار المدفأة. تفقّد بنظره المكان كلّ شيء كما هو حتى عفونة منفضة سجائره المهجورة. هو لم يغب طويلاً على أيّ حال، إلا أنّ جزءً من روحه تجمد! نظر إلى سلك الهاتف المحتضر و لم يعده إلى حياته، أمسك هاتفه المحمول، لم يقرأ أيّاً من الرسائل المتكدسة و لم يكن لديه أيّ فضول لمعرفة مَن مِن المتطفلين ترك له علقة على هاتفه ، دس رسالة رمادية إلى مدير المسرح يخبره أنه مريض و لن يأتي إلى حين لا يعلمه ! .


_ هي _

غادرت الحافلة... بقيت واقفة تتأمل الطريق المتعرج الذي يجب عليها مسامرته حتى تصل ملاذها الصغير، و ككل مرة استنشقت مزيج الهواء والعتمة، أغمضت عينيها قليلاً ثم بدأت تتلمس خطاها ببط . لم تلعن يوماً وعورة الطريق و لا طوله، و لم تلعن يتمها الدافئ الذي يُجبرها على مشي كل هذه الأمتار يومياً ، لقد أحبت اليتم وعشقت تلك الوعورة! كان الطريق يُشبهها لذا أحبته، كان يُذكّرها بالأمل في نهاية جميلة كبيت، و كان يمنح روحها كثافة تُثبّت أقدامها و تمنعها من التعثر. وصلت أخيراً بعد ساعة من التوحد بنفسها والطريق ، لم تخلع معطفها ، ألقت نفسها في حضن أريكتها و جلست تتأمل المدفأة دون نار.
 بقيت قرابة الساعة على حالها، تَهُشّ أفكار الدفء التي تحوم حول جمجمتها .نهضت أخيراً، أعدّت شيئاً تُسكت به عويل معدتها الحاد، و عادت إلى البرودة المتلبسة مفاصل مدفئتها. لم تطرد أفكارها هذه المرة بل فتحت ذراعيها و ضمتها بشدة و همست لها أن هناك غد قريب سيدق بابها !.


_ هي و هو _

هُما ... توهج قمر و جموح أدهم!
اختطفتها غفوة استفاقت منها مذعورة خوفاً من التأخير، بقي ساعة على موعد خروجها، سبقها قلبها و بقيت هي تُعد كوب شوكولا تُمتع به روحها و تتلذذ بأفكارها العذبة. لم تُطق صبراً، شربت لذتها بسرعة و خرجت قبل موعدها. وصلت المسرح باكراً، كانت تعلم أنه أول الواصلين دائماً، و ما أن طرق اسمه بالها حتى سمعت صوت نبضها ،همست له" تروّى سيأتي قريباً" .
 وصل الجميع  و لم يصل. أطلت خيبة رأسها، مدت لسانها لها و ضحكت. انكبت على عملها بغل، تمنت لو أنها تستطيع تمزيق جمجمة  زينت لها شياطين أفكارها. تذكرت شيئاً  قالته لصديقتها يوماً (أحياناً تُفسد الأنثى عقلها بتأويلات جوفاء من الصحة، فهي عندما تفيض رغبة لا ترى الحقيقة حين خيبة ،تنسى أن قطاع الطرق من الظروف كُثر، تنسى العفو عند المقدرة و تباشر القصاص !) ضحكت ملء فكيها و هدأت.
ناداها مدير المسرح: قمر تعالي بسرعة.
- ها أنا آتية ، أمهلني قليلاً فقط.
- قلت بسرعة.
(تُدرك شراسة مزاجه ، تركت أوراقها مبعثرة  و هرعت إليه) .
- نعم ، حضرة المدير.
(زأر موبخاً إياها، و صب قيظ غضبه عليها. لم تُعره انتباهاً فقد تعودت قذارة روحه، خرمت طبلة أذنها و تركته يُكمل هيجانه ،و حين انتهى من ثورة غضبه عليها...)
- ماذا يظن نفسه هذا؟! يا له من متعجرف قذر، لو يُدرك حجمه كحشرة لن يفعل ذلك، سحقاً للظروف التي تتركني بحاجته دائماً ، فالجمهوراللعين  له وحده! هذا الحقير المحتال يدّعي المرض. لكن تأكدي سأقتنص أول فرصة مناسبة و سأرميه خارجاً. خذي النص وأعطهِ إياه و لا تعودي اليوم لا أريد رؤية وجهكِ أيضاً.
- لكن من هو ؟
- ففففففففففف، أدهم. اخرجي بسرعة.
............
سقط اسمه كحجر على رأسها، وتبعه قلبها. لم تكن تُصدق بعد هدية القدر! القدر عجيب كلما حاولنا كشفه أو التحايل عليه فتح لنا باباً من الدهشة في الوقت الذي لا نتوقعه أبداً؛ قبيل السقوط غالباً.
 يال الغبطة التي تسربت إلى كلّ مسامٍ فيها. ستقابله وحده و يتكلمان دونما قيود، دون عيون نهمة تنهشهما سوءً و جهالة. كادت أن تحضن مديرها الفظ ، نظرت إليه و عزفت فوراً عن رعونتها البلهاء تلك، انطلقت إلى مكتبها مسرعة . لملمت أشياءها المبعثرة دستها في حقيبتها  وخرجت على جناح الريح. لم تكن بحاجة إلى أحد يمُن عليها بالعنوان فهو وشم منقوش في ذاكرتها.
على الرغم من خوفها من مرض يرهق أوصاله، و من لهفة تُضخ في عروقها، إلا أنها لم تُرد إفساد لوحة قبل البدء برسمها، تخاف أن يبلى القماش بكثرة الألوان و لا تكتمل اللوحة. لم تكن تمشي مسرعة و لا على مهل ، كانت تسير بخطوة مدروسة تسبق بها زمنها الراكد دون أن تتخطى حد السرعة. مالت قليلاً محاذاة السوق علها تجد شيئاً يليق به، لم تُفكر كثيراً جلبت له دفتراً بلون البحر و حبة شوكولا واحدة و رشة من عطرها.
وصلت أخيراً، وقفت أسفل العمارة و أخذت نفساً طويلاً ضبطت به ذراتها النافرة و صعدت درج أحلامها نحو شقته. وقفت مجدداً أمام الباب، تسمرت اثر الرائحة الزكية التي تتسرب إليها من أسفل الباب، و بروح الظافرالطافحة بموسيقاه العذبة التي راقصت أذنيها. شيء ما هبط عليها  و أمرها أن تهرب لكنها باغتته  و دقت الجرس.
 قاطع تجليه صوت الجرس، تململ في مكانه و لم يقم، دُقّ ثانية ، قام ببطء شديد، و فتح الباب أخيراً. ذاب جليد روحه وفضحه ما تبخر منه. لم ينبس بكلمة ، وقف تمثالاً يلاحق أنفاسه الهاربة منه. هي لم تكن أقل منه انفضاحاً! فشلت كل الخطط التي ثابرت على رسمها في مخيلتها ، و قبلت هزيمتها أمام حضوره بصدر رحب. بقي كلٌّ منهما يحدق بالآخر، إلى أن تورد الرمان في خدودها و أحنت رأسها خجلاً. نطق أخيراً؛
- حضورك يشبه الغيث بعد انقطاع الرجاء.
- .....................
- لم أتوقع مفاجأة برائحة النرجس.
- أشكرك.
- لا تُشكر الوردة على عبيرها.
- ...................
- هههههه ، حسناً.
- ستتركني هنا كثيراً!
- أعتذر، تفضلي.
أزاح نفسه جانباً و دخلت، وقف إلى الحائط يُسند ظهره المنزلق برؤيتها ،كان يحاول التقاط أنفاسه ، لم يتوقع أن البرق الذي استحال بينه و بين تجمده أتى وأصابه! تركها تستكشف شقته و تلملم دهشتها بغرابة ما تراه.
- هذا ملاذي لكِ حرية اكتشافه لحين عودتي.
- أشكرك.
دخل إلى المطبخ ، أعدّ القهوة بسرعة و جعلها مرة، وضع قطعة سكر واحدة قرب الفنجانين و قطعتا شوكولا.
- هل أعجبك المكان؟
- فاجأني.
- بما!
- ترتيبه الغريب، الروائح العبقة ، الموسيقى الساحرة التي تجعل منه قصراً على الرغم من
- هههههههههه ، كما توقعت تماماً.
- ...........
- ستؤلمك قدماكِ،قلت لكِ تفضلي .
- تفضل أولاً.
- ما هذا؟
- شيءٌ ارتأيت أنه يليق بك.
- شكراً لكِ.
- العفو.
(جلست على ذات الأريكة ،تركت مسافة تباغت اللهفة إن سبقتهما !)
- كيف فعلتها؟
- وُكلت بمهمة.
- و دون مهمة؟
- لن آتي.
- ربما.
- ربما! لمَ تضع احتمالاً و لا تؤكد.
- لأصدّ الهجوم قبل بدءه.
- أيّ هجوم؟
- ذاك الذي سيتصاعد مكابرة إن أكدت حضورك!
- لن أفعل، ثم لا تكن واثقاً هكذا.
- ههههههههههههههه ، أرأيتِ!
- كلا لم أرَ. لا تتباهى كثيراً لست أرى ريشة تلوح فوق رأسك.
- يا عزيزتي ، لا معنى للريشة فوق الرأس! أصحاب الريش كُثر إلا أنه لايُحيلهم شيئاً. المهم هو الشيء الذي يحمل الريشة فوقه، يسمونه رأساً و أسميه عقلاً!
- ......................
- أين الرد؟
- أنت محق.
- هههههههه ، أحسنتِ.
- أجل.
- قولي لي ما تلك المهمة التي حملتك إلي؟
- جئت أسلمك النص للمسرحية القادمة. حسناً، سأشاركك اياها أيضاً.
- فعلها أخيراً!
- دخل هواء إلى جيبه و أدرك أنه بحاجة لشيء يرتق به الثقب.
- أعلم ذلك، هلا ناولتني إياه.
- تفضل.
(النص يدها، لو أنني أمسكها و أقلبها على مهل، و أعدها أني سأحفظها عن ظهر قلب من المرة الأولى)
- شكراً.
نظر مطولاً إلى عينيها ثم مزق النص !!!
- هل جننت ما الذي فعلته!
- مزقته .
- تقولها ببساطة هكذا!
- نعم. لن نحتاج لنص نتلوه بفم أجوف، النص داخلنا.
- لن يقتنع .
- لن يعلم إلا بعد فوات الأوان، هذا سرنا.
- هههههههههه ، حسناً.
- الكلمات المفروضة علينا تلجم أرواحنا.
- أجل ، تُقيدها ببلاغة كاذبة يُفضح زيفها على عتبة العين. لمَ نموت بقيد من سراب يندثر عند أول تلويحة باليد؟ أنت محق، محق جداً.
- أليس هذا ضرباً من الجنون؟
- حينما يكون الجنون قمة العقلانية لن يُضر و سينفع.
- هل تكتبين النص الجديد؟
- لا ، لن أفعل. و لن يكون هناك نص!
- و ما الذي سنواجه به الأعناق الممتدة شغفاً بنا؟
- نحن سنتلو دواخلنا، هكذا ببساطة دون تفكير أو تنميق ، سنتكلم بأصوات أرواحنا فقط.
- توازيني جنوناً.
- أوازيك!
- هههههههههههههههههه.
- ألن ترى ما يليق بك؟
- بل سأفعل.
فتح هديتها ببطء ، ترك رائحتها تداعب أنفه، و أخرج ما فيها ببطء أكثر، ضحك ضحك ضحك إلى حد انفجار رئتيه ، ثم هدأ.
ارتبكت بضحكته ، نهضت بسرعة حملت حقيبتها و توجهت نحو الباب، و قبل أن تهرب نادى عليها؛
- قمر،انتظري.
توقفت و نظرت إليه، فتح حبة الشوكولاو أعطاها نصفها ثم صمت. و بعد برهة...
- أنتِ من جلبتي لعنة الورق، راسليني.
- ماذا؟
- أجل، ستكتبين لي. ستأتين صبحاً و ظهراً و مساءً، تقفين أمام الباب تدسين رسالتك تحته و تتركين لي عطرك و الكلمات.  سأرد الورق بالورق و أسير دربك الطويل و أترك عطري و روحي.
- حسناً ، سأفعل سأفعل .
.
----------------------------------------------------
 الصوره من فيلم : The secret in their eyes
----------------------------------------------------
 هند محمد 

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق